فصل: الخبر عن الآثار التي أظهرها السلطان في أيامه.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن الآثار التي أظهرها السلطان في أيامه.

فمنها شروعه في اختطاط المصانع الملوكية وأولها المصيد بناحية بنزرت اتخذه للصيد سنة خمسين وستمائة فأدار سياجا على بسيط من الأرض قد خرج نطاقه عن التحديد بحيث لا يراع فيه سرب الوحش فإذا ركب للصيد تخطى ذلك السياج إلى قوراء في لمة من مواليه المتخصين وأصحاب بيزرته بما معهم من جوارح بزاة وصقورا وكلابا سلوقية وفهودا فيرسلونها على الوحش في تلك القوراء وقد وثقوا باعتراض البناء لها من أمام فيقضي وطرا من ذلك القنيص سائر يومه فكان ذلك من أفخم ما عمل في مثلها ثم وصل ما بين قصوره ورياض رأس الطائبة بحائطين ممتدين يجوزان عرض العشرة أذرع أو نحوها طريقا سالكا ما بينهما وعلى ارتفاع عشرة أذرع يحتجب به الحرم في خروجهن إلى تلك البساتين عن ارتفاع العيون عليهن فكان ذلك مصنعا فخما وأثرا على أيام الدولة خالدا.
ثم بنى بعد ذلك الصرح العالي بفناء داره ويعرف بقبة أساراك وأساراك باللسان المصمودي هو القوراء الفسيحة وهذا الصرح هو إيوان مرتفع السماك متباعد الأقطار متسع الأرجاء يشرع منه إلى الغرب وجانبيه ثلاثة أبواب لكل باب منها مصرعان من خشب مؤلف الصنعة ينوء كل مصراع منها في فتحه وغلقه بالعصبة أولي القوة.
ويفضي بابها الأعظم المقابل لسمت الغرب الى معارج قد نصبت للظهور عليها عريضة ما بين الجوف إلى القبلة بعرض الأيوان يناهز عددها الخمسين أو نحوها ويفضي البابان عن جانبيه إلى طريقين ينتهيان إلى حائط القوراء ثم ينعطفان إلى ساحة القوراء يجلس السلطان فيها على أريكته مقابل الداخل أيام العرض والفود ومشاهد الأعياد فجاءت من أضخم الأواوين وأحفل المصانع التي تشهد بأبهة الملك وجلالة الدولة.
واتخذ أيضا بخارج حضرته البستان الطائر الذكر المعروف بأبي فهر يشتمل على جنات معروشات وغير معروشات اغترس فيها من شجرة كل فاكهة من أصناف التين والزيتون والرمان والنخيل والأعناب وسائر الفواكه وأصناف الشجر ونضد كل صنف منها في دوحة حتى لقد اغترس من السدر والطلح والشجر البري وسمى دوح هذه بالشعراء واتخذ وسطها البساتين والرياض بالمصانع والحوائز وشجر النور والنزه من الليم والنارنج والسرو والريحان وشجر الياسمين والخيري والنيلوفر وأمثاله وجعل وسط هذه الرياض روضا فسيح الساحة وصنع فيه للماء حائزا من عداد البحور جلب إليه الماء في القناة القديمة كانت ما بين عيون زغوان وقرطاجنة تسلك بطن الأرض في أماكن وتركب البناء العادي ذا الهياكل الماثلة والقسي القائمة على الأرجل الضخمة في أخرى فعطف هذه القناة من أقرب السموات إلى هذا البستان وأمطاها حائطا وصل ما بينهما حتى ينبعث من فوهة عظيمة إلى جب عميق المهوى زصيف البناء متباعد الأقطار مربع القنا مجلل بالكلس إلى أن يغمره الماء فيرسله في قناة أخرى قريبة الغاية فينبعث في الصهريج إلى أن يعبق حوضه وتضطرب أمواجه يترفه الحظايا عن السعي بشاطئه لبعد مداه فيركبن في الجواري المنشئات ثبجه فيتبارى بهن تباري الفتح ومثلت بطرفي هذا الصهريج قبتان متقابلتان كبرا وصغرا على أعمدة المرمر مشيدة جوانبها بالرخام المنجد ورفعت سقفها من الخشب المقدر بالصنائع المحكمة والأشكال المنقمة إلى ما اشتملت عليه هذه الرياض من المقاصير والأواوين والحوائز والقصور وغرفا من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وتأنق في مبانيه هذه واستبلغ وعدل عن مصانع سلفه ورياضهم إلى متنزهاته من هذه فبلغ فيها الغاية في الاحتفال وطار لها ذكر في الآفاق.

.الخبر عن فرار أخيه أبي إسحاق وبيعة رياح له وما قارن ذلك من الأحداث.

كان الأمير أبو إسحاق في إيالة أخيه المستنصر وكان يعاني من خلقه وملكته عليه شدة وكان السلطان يخافه على أمره وخرج سنة إحدى وخمسين وستمائة لبعض الوجوه السلطانية ففر الأمير أبو إسحاق من معسكره ولحق بالدواودة من رياح فبايعوه بروايا من نواحي نقاوس واجتمعوا على أمره وبايع له ظافر مولى أبيه النازع إليهم واعتقد منه الذمة والرتبة وقصدوا بسكرة وحاصروها ونادى بشعار طاعتهم فضل بن علي ابن الحسن بن مزني من مشيختها وائتمر به الملأ ليقتلوه ففر إليه وصار في جملته ثم بايع له أهل بسكرة ودخلوا في طاعته ثم ارتحلوا إلى قابس فنازلوها واجتمعت عليه الأعراب من كل أوب وأهم السلطان شأنه وتقبض على ولده فحبسهم بالقصبة جميعا ووكل بهم من يحوطهم وألطف ابن أبي الحسين الحيلة في فساد ما بين الأمير أبي إسحاق ومولاه ظافر بتحذير ألقاه إلى أخته بالحضرة تنصحا فبعث به إلى أخيها فتنكر لظافر وفارقه وسار إلى المغرب ثم لحق بالأندلس وافترق جموع الأمير أبي إسحاق فلحق بتلمسان وأجاز منها إلى الأندلس.
ونزل على السلطان محمد بن الأحمر فرعى له عهد أبيه وأسنى له الجراية وشهد هنالك الوقائع وأبلى في الجهاد ولم يزل السلطان المستنصر يتاحف ابن الأحمر ويهاديه ويوفد عله مشيخة الموحدين مصانعة في شأن أخيه واستجلاء لحاله إلى أن هلك وكان من ولاية أخيه أبي إسحاق ما نذكر لحين مهلكه أجاز ظافر من الأندلس إلى بجاية وأوفد ولده على الواثق مستعتبا وراغيا في السبيل إلى الحج.
وقلق المستولي على الدولة بمكانه وراسل شيخ الموحدين أبا هلال عياد بن محمد الهنتاتي صاحب بجاية في اغتياله من قصده فذهب دمه هدرا وبقي ولده عند بني توجين حتى جاءوا في جملة السلطان أبي إسحاق وبيد الله تصاريف الأمور.